Publicidadspot_img
-Publicidad-spot_img
ArpaAhmed Morsi: de Alejandría a Nueva York

Ahmed Morsi: de Alejandría a Nueva York [Versión original en árabe]

 

 

 

 

9 من أبريل 2000م


أحمد مرسي يكتب «لا – شهادة» 

شاعر يقيم في نيويورك وليس مهاجراً


الشاعر عبدالوهاب البياتي، فيما أذكر، أول من سجل «تجربته الشعرية» في كتاب كان فاتحة موجة من التجارب التي تتابعت بعد ذلك لكوكبة  من الشعراء الذين كانوا لايزالون في مقتبل العمر. وكانت تجاربهم لاتزال في طول النضوج لا بحكم الممارسة المحدودة فحسب، بل أيضاً بحكم محدودية المعرفة الشعرية نفسها على المستوى العالمي، وخاصةً فيما يتعلق بتطور الشعر ليواكب القرن العشرين وهي، فيما أعتقد عملية كثيراً من مجرد الخروج على العمود الشعرى والتعبير عن القرن العشرين، والتعبير عن القرن العشرين بلغة شعراء البادية.


         ولذلك، كنت احسد هؤلاء الشعراء –الأصدقاء- على ثقتهم بالنفس، وجسارتهم أيضاً، لتلهّفهم على اصطناع أدوار الشعراء – المعلمين – وادّعاء الاكتمال.

 

والأدهي من ذلك، أن هؤلاء الشعراء – الأصدقاء – قد لعب بعقولهم الزهو والخيلاء فلم يقتنعوا بتسجيل تجاربهم الشعرية، التي لم يفكر فيها شاعر مزهو بنفسه عن حق، مثل المتنبى أو عملاق أخر مثل شكسبير أو شاعر رؤيوى رجيم مثل إدجار الآن بو ومثله رامبو. فطلعوا علينا، وكانوا لايزالون أيضاً في عنفوان العمر، بطبعات «الاعمال الكاملة» التي اثبتت السنون أنها كانت «ناقصة» لأن الاعمال الكاملة لا تطبع في العادة إلا بعد الوفاة، او إذا بلغ الشاعر او الكاتب أرذل العمر، او اذا تضب معينه الشعري وأمثلة ذلك كثيراً.

 

ولهذا، اعتقد اني كنت محقاً في سخريتي من هاتين الظاهرتين وخاصةً لأن موقفي من التجربة الشعرية كان على نقيض ذلك كلية. فقد كانت هذه التجربة، بالنسبة لي، طقساً سرياً يمثل الوسيلة والغاية في أن واحد. ولذلك، لم أشعر برغبة في نشر قصائدي، مكتفياً بحلقة مغلقة من الأصدقاء الحميمين، ومن بينهم صديق العمر إدوار الخراط، الذين كنت أوزع عليهم نماذج من قصائدي التي كنت أطبع منها نسخاً محدودة على الآلة الكاتبة، بمكتب «مجري أوفريند» لبراءات الاختراع الذي كنت أعمل به مترجماً منذ 1949 في الاسكندرية.

 

فلا غرو إذن أن أسقط في يدي عندما طلب مني الصديق إدوار الخراط أن أكتب «شهادة» لهذا الملف الخاص. كيف أقدم إذن على كسر «محارة الشعر―النفس» بغية أن أحلّ مغاليق عملية عشتها منذ سن 12 سنة، ولا أزال أعيشها وأنا أخطو الآن نحو السبعين. ناهيك أني حتى الآن أتردد من مجرد التوقيع على لوحة انتهيت من رسمها. فيما بالك بهذه التجربة السرية التي أخافها وأخشي عليها، وأتعامل معها كقربان وليس كشريك، كما قد يخيل للآخرين.

 

ربما أستطيع أن اتعقب بعض مسارات المتاهة التي قادتني إلى شرك «الشعر» ولكنني لا أستطيع بالقطع أن أصف بالكلمات كنه الغواية التي حفزتني على الانقياد والارتماء بلا وعي أو قصد في حبائل هذا الشرك. وربما كانت البداية نفسها غامضة. فهل هي بدأت في سن 12 سنة فعلا، أم قبل ذلك من كثير.

 

ويخيل لي الآن فقط، وأنا أكتب هذه «اللا-شهادة» في نيويورك، انها بدأت مع ولادتي على يدي قابلة في كفر عشري، بحي كوبري التاريخي، في اسكندرية، أو في اللحظة التي نزع فيها غشاء كان يكسو وجهي وصنعت منه أمي حجابا حرصت على حمله حتى سنّ البلوغ.

 

أو ربما بدأت بعد انتقالنا من القباري إلى الأنفوشي عندما فتحت عيني صباح يومنا الأول على الميناء الشرقية وشباك الصيادين المفروشة على سور الكورنيش، أو في غرفة الرسام بمدرسة رأس التين الابتدائية التي كانت تطلّ على مرفاً الجمرك وقصر رأس التين أم… أم…

 

لا أستطيع أن أحدد على نحو قاطع ما إذا كانت هناك جينة معينة مسئولة عن الافراز الشعري. ولكنني استطيع مع ذلك ان أشهد بأني كنت أعيش، منذ نعومة أظافري، في داخلي أكثر من عيشي في العالم الخارجي. وقد دفعني هذا الميل إلى البحث عن رفقة يكمن أن أجد فيها من يستطيع أن ينير ظلمة هذا العالم. وقد قادني هذا البحث إلى الكتاب ولم تختلف تجربتي في القراءة عن تجارب نظرائي من جيلي. التعرف على أسرار اللغة في كتب التراث وعلى رأسها «القرآن الكريم» ثم الشعر الكلاسيكي ابتداء من المعلقات حتى الكلاسيكية الجديدة التي حمل لواءها أحمد شوقي إلى شعراء أبوللو وما تبعهم ممن يسميهم النقاد العرب جوازاً بالشعراء الرومانسيين وشعراء المهجر، على سبيل المثال لا الحصر.

 

واعتقد ان مشروع القراءه هذا لم يكن أكثر من محطات على طريق اكتشاف الذات من خلال التعرف على نقاط الخلاف أو التوافق مع الأخرين. ولكنني في حالتي ―الخاصة― أؤكد على الخلاف بالذات. ولكنّ هذا الطريق التقليدي ―مع ذلك― لا يمكن أن يؤدي الى محطة النهاية، أو بالاحرى محطة البداية أو لنقل منصة الانطلاق الى المجهول.

 

لم يعلمني أحد هذه الحقيقة التي اهتديت إليها بالخروج من معايشة تجارب الآخر أكثر عطشا وأشد قلقا وفضولا لمعرفة الأنا الحقيقية. ولذلك كان أولئك الشعراء مجرد رفقة سفر. وان شئت الدقة، لقلت عابري سبيل وربما حاولت أن احتفظ لبعضهم وقد―كانوا كثارا― بلحظات مكاشفة لا شك تركت اثرا ما في توجيهي، وليس بالقطع في تكويني.

 

وقد ساعدني على هذا التوحد سواء كان نعمة أو نقمة، طبيعتي الانطوائية وشعور فطري بالانتماء أو الاغتراب أو العجز عن التكيف الا مع عالم الاخرين فحسب، بل مع عالمي نفسه قد تأكد هذا الإحساس بالذات في سنوات المراهقة، ثم أخذ، مع مر السنين يلبس اقنعة اجتماعية حربائية لا يقدر على نزعها إلا الشعر، بل ونوع معين من الشعر الذي قد يقترب من الرقية السحرية.

 

لقد توالت إذن تلك المحطات دون أن تقودني احداها الى «جزيرة الكنز» ولذلك، كان لابد من شق البحار، وربما اجواز الفضاء للوصول الى عالم آخر يتحدث بلغة العصر.

 

لم يكن هذا العالم الطريف بعيدا الى هذا الحد، ولكنه لم يكن أيضا على مرمي حجر. فقد كانت اسكندرية الاربعينات هي بوتقة مصغرة لهذا العالم. وكانت هناك المكتبات الفرنسية ومنها «هاشيت» والمكتبات الانجليزية المتعددة، وحتى المكتبات المصرية التي تبيع أحدث مطبوعات لندن من كتب ومجلات. وكانت اللغة، بطبيعة الحال، هي الحاجز الذي يحول بينك وبين العالم السحري. ولكن الارادة في اجتياز هذا الحاجز كانت أقوى منه. وكانت البداية نتيجة صدفة. وهي الوقوع على طبعات خاصة من انثولوجيات الشعرية، والكتب الادبية، وربما بعض المجلات التي كان الجيش الانجليزي يطبعها في الاسكندرية لتوزع على جنوده خلال سنوات الحر، وبطبيعة الحال كانت هذه المطبوعات تباع بأسعار زهيدة، ولا يحتاج المرء لفض بكارتها إلا الى قاموس. وما كان أرخص القواميس في ذلك الوقت!

 

وبعد الحرب مباشرة، شهدت الاسكندرية نشاطا فنيا وثقافيا ربما كانت العواصم الاوروبية التي انهكتها وجوعتها الحرب، محرومة منه. ولا غرابة في ذلك، لان أغنياء المدينة الفرنسيين والايطاليين واليونانيين خرجوا من الحرب أكثر انتعاشا، فلا بأس إذن من انتقال الفرق المسرحية، الكوميدي فرانسيز، وفرق الباليه ―الماركيز كوفاس―وفرق الاويرا الايطالية مع اشهر مغنيها― بنيامينو جيلي وتيتو جوبي، واحدث الافلام الفرنسية وأفلام الواقعية الايطالية ومعارض المدرسة الفرنسية ― بيكاسو وبراك موديلياني وروو، الخ― الى هذه السوق الثقافية المنتعشة. وسرعان ما أضيف القاموس الفرنسي الى القاموس الانجليزي.

 

وكما عكفت في مكتبة البلدية على استنساخ مخطوطة عن علم العروض للخليل احمد الفراهيدي، واتخذت من بحوره هياكل لعمارة شعرية كلاسيكية، رحت اترجم شكسبير شعرا وأجاهد بشق النفس وفي غير هوادة لأترجم فاليري وفيرلين وكلوديل ولافورج وغيرهم، بل وتجاسرت بالفعل على كتابة قصائد بالفرنسية.

 

ولحسن الحظ، فقدت هذه القصائد، ربما عن عمد، خوفا من ان يأتي يوم احتاج فيه الى قاموس لقراءتها. وقد جاء هذا اليوم بالفعل، لابتعادي تدريجيا منذ منتصف الخمسينات تقريبا عن التعامل مع اللغة الفرنسية، باستثناء قراءة الصحف والمجلات الفنية.

 

وبطبيعة الحال، لم تكن هذه الترجمات من أجل النشر. ولكني أحب أن اشبهها، حتى بعد أن اصبحت الآن انشر ما اترجمه، أو على الأقل ما اريد نشره ―لأني مازلت أميل لي ترجمة الشعر الذي أحبه لنفسي ― على أعمال معينة لليست أو شوبان أو موتسارت أو أي مؤلف موسيقي آخر للاحتفاظ بلياقته كعازف، من ناحية، وصقل حساسيته الموسيقية من ناحية أخرى.

 

وقد بدأت عملية الانسلاخ من الموئل الشعري الموروث، ومرحلة التشرد في فراديس وسجون الآخرين، في بداية 1948 بعد زج مجموعتي الأولى «أغاني المحاريب» اي المطبعة.

 

وقد وطأت قدمي أولى محطات الجحيم ― حجيمي الشعري― في بداية 1949 قبل وبعد تجربة موت حقيقية قضيت فيها قرابة عام طريح الفراش، لا استطيع ان اضع قدمي على الارض. ولم يكن هذا الجحيم الفيزيقي غير تجسيد لما كان يضطرم داخلي، إحساس بالاغتراب غير مفهوم، على الأقل، بالنسبة لي في تلك السن 19 سنة.

 

ولكن هذه السنة الكابوسية كانت تتويجا لتجربة الموت الشعرية، ومن حصادها (ماتت تحت ضوء القمر) و (الرحيل الى اصقاع الحب الجحيمية).

 

وفي العام التالي، افرزت في سن العشرين قصائد من بينها «ابدا اموت مع الطيور» و «تشييع» و «الروح والرقص»، وهي القصائد التي سلختني من قطيع الشعراء العرب الموجودين واللاحقين انسلاخا بائنا.

 

ولم يكن هذا الانسلاخ، بأي حال من الأحوال، نتيجة خطة لتنفيذ «مشروع شعري»، ذلك المصطلح الذي يثير السخرية، من فرط سذاجته مثل تلك المعارك المضرة التي تثار من وقت الى أخر حول ما يسميه «النقاد» ريادة الشعر العربي الحديث، واسمها الشفرى قصيدة التفعيلة، ومما يثير السخرية حقا، هو ان هذه المعركة تتركز على شكل مستعار او منتحل أو حتى قديم، وههذا هو الشىء المؤلم حقيقة، لأن اصحابه الاصليين لا يعتبرونه تجديدا، ناهيك عن «حسبة» التواريخ المثيرة للشفقة.

 

وفيما يتعلق بمصطلح «المشروع الشعري» فإن رفضى له يستند الى ايماني بأن الشعر فن، مثل الموسيقى والنحت والتصوير، وليس علما من العلوم. ولكنه كفن يحتاج اتقانه، مثل أي فن آخر، الى الإلمام بأصوله وأدواته، ومن بينها، طبيعة الحال، المعرفة الشعرية، وتشمل تجارب الشعراء المبدعين باختلاف جنسياتهم ولكن السبيل الى هذه المعرفة ليس بالضرورة هو الدراسة المنهجية. ولكنه، فيما يتعلق بحالتي، سبيل ملتو لا يسير في خط مستقيم لانه يخضع اساسا  لذائقتي الشعرية، حساسيتي الخاصة، ولا تستهويني قي ذلك الاسماء اللامعة، بقدر ما يستهويني العمل نفسه.

 

وإذا كان اي شاعر لابد ان يدين في مرحلة حاسمة من مراحل نموه لشاعر ―أبوي― آخر، فإنني لا أتردد على الإطلاق في ان اعترف بتأثير اعمال بابلو بيكاسو في مرحلة معينة ―منتصف واواخر الثلاثينات التي افرزت سلسلة النساء الناحبات وبورتريهات «دورا مار» القاجعة وتوجت برائعته جورنيكا»― واعماله الأخرى خلال الاحتلال النازي لفرنسا.

 

وقد يندهش البعض لهذا «الدين»، فما علاقة اعمال بيكاسو تلك بالشعر؟

الحقيقة ان بيكاسو لم يغير الطريقة التي كنت أنظر بها الى الحياة والعالم كما يقول النقاد ولكنه شجعني على الغوص في داخلي المظلم والسباحة فيه بدون خوف او خجل او شعور بالذنب كما اقنعني بأن الجمال في عين الرائي.

 

إنني لم احاول، مثلا، أن اكتب قصيدة تكعبيبية كما فعلت جيرترول ستاين، بل استطيع ان اؤكد ان هذا التأثير قد تخلل عملية تفكيك الرؤيا والتعبير عنها في عمل مركب ذي مشاهد رؤيوية واصوات متعددة وإن توحدت في تيمة واحدة، ولا أنكر، مع ذلك، احتمالات التأثير بشعراء آخرين، ولكنني لا أعطى هذه الاحتمالات أهمية كبيرة لشىء واحد، وهو حقيقة أنني شاعر بلا ذاكرة شعرية.

 

والدليل على ذلك، إن كانت هناك حاجة الى دليل، أني كنت أعتمد على هذه الخاصية المركبة ―إمكانية حفظ قصيدة طويلة― أو أي نص أدبي بسرعة شديدة ونسيانها كلية بنفس السرعة حيث كنا نطالب في المدرسة الثانوية بحفظ قصائد معينة للشعراء الذين ندرسهم، المتنبي والبحتري وابوتملم وغيرهم وكنت استغل المسافة التي اقطعها يوميا من البيت في محرم بك الى مدرسة الجمعية العروة الوثقي الثانوية بمنطقة الشلالات لحفظ اي نص شعري قد نطالب بتسميعه في حصه الأدب العربي الذي كان يدرسه شاعر سكندري قديم، الفضل اسماعيل، إن كانت ذاكرتي «اللاشعرية» تسعفني.

 

وبرغم أن الشعراء العرب بصفة خاصة يفاخرون، وربما يختالون أيضا، بقدر ماتعيه ذاكرتهم من ذخيرة الشعر العربي، ناهيك عن اغتنامهم لأية فرصة تسنح لهم لكي ينشدوا ويتغنوا بقصائدهم، برغم هذا احمد الرب على نعمة «اللاذاكرة الشعرية» التي لا تفرق بين شعر الآخرين، بمن فيهم فطاحل الشعر العربي، وشعر العبد الفقير إلى اللهّ!

 

ويفضل هذه النعمة وحدها، أعتقد، ولو من قبيل التمنى، أني قاومت، ومازلت أقاوم انتهاك حرمة فضائي الشعري، إلا ان هذه المناعة ―المدعاة― كانت فيما يبدو سلاحا ذا حدين. فبينما أحاطت فردوسي المتخيل وجحيمي الحقيقي بسياج منيع ―بقدر الامكان― فقدعزلتني تماما عن التيار الشعري السائد وخاصة فيما بعد منتصف الخمسينات، بعد زيارتي للعراق، الذي عشت فيه عامين، حتى منتصف 57، وحيث تعرفت، لأول مرة، على الحركة الثقافية عن كثب. وهناك توطدت صداقتي بالشاعر عبدالوهاب البياتي والروائي فؤاد التكرلي والقاص عبدالملك نوري وغيرهم من الشعراء والكتاب، الى جانب أهم الفنانين العراقيين في تلك الحقبة المزدهرة ومن بينهم جواد سليم ونزار سليم واسماعيل الشيخلي اورداش وشاكر حسن سعيد وغيرهم.

 

ومع زيادة توطد علاقتي بالشعراء العراقيين خاصة، كانت هناك فجوة أخذة في الاتساع، ولكن لم يكن يشعر بها أحد غيري. فها هم أولئك الشعراء مشغولون بقضايا «الحلم القومي» الذي بدأ مغناطيسة يشد خيال وأفئدة الشارع العربي، بينما كان شاغلي الوحيد هو «الحلم الشعري» الذي كنت أعيشه سرا. ولكنه هذه الفجوة لم تؤثر مع ذلك صداقتنا الحميمة نتيجة لخبرتي الحياتية في التعامل اليومي خلف قناع.

 

وفي هذه الفترة بالذات تعمق إحساسي بالاغتراب الروحي وعدم الانتماء، خاصة أني قد حاولت قبل سفرى الى العراق بسنتين تقريبا ان اتجاوب مع ما كان يسمي في ذلك الوقت بالمد الثوري في مصر، ولكن هذه التجربة اقنعتني بالستحالة الانضمام الى القطيع مالم تكن مهيأ سيكلوجيا لذلك، وكانت ثمرة هذه التجربة التي لم تعمر أكثر من عام قصائد 1954 التي تناولت فيها بغنائية واقعية ―لاول مرة― تحمل اصداء بعيدة من والت ويتمان وبول ايلوار ―تيمات اجتماعية ووطنية تؤكد الإحساس بانقشاع الوهم الذي تأكد في أحداث ذلك العام المأساوية.

 

ولأني «لاسياسي» أو «كاره للسياسة» بطبيعتي، جنبتني السليقة وحدها التورط في نقد او الدفاع عن النظام السياسي القائم الذي كنت، فيما بيني وبين نفسي، أرفضه رفعني لأية سلطة «أبوية» في الماضي والحاضر المستقبل.

 

لهذا فقط كان ازدرائي لـ «شعراء موائد الرحمن» لا في هذه المرحلة بالذات، وما كان أكثرهم، بل في جميع عصور التاريخ العربي.

 

وحتى لايساء فهم هذا التمرد ضد «السلطة الابوية» في شتى صورها الاجتماعية والسياسية والثقافية، ويؤدي سوء الفهم الى ان يستنتج احدهم أني لا اختلف  سلوكا عن اولئك الذين يتغنون بصاحب الصولجان وينخرطون في صفوف أشد دراويشه غلوا، مادام حيا، وماسكا بزمام الأمور وعندما يسقط وهو في الغالب لاغالب له إلا الموت، ينقلبون عليه متبرئين منه.

 

ودرءاً لاي تهمة طائشة مجانية، ودعوة الى تأكيد المفارقة، ومعها سخف قياسي الحداثة، بالشكل القديم المنتحل، أشير الى قصيدة «ماتت تحت ضوء القمر» (يوليو 1949)، النشيد الأول ―المقطع السابع― حيث أقول ―في سن التاسعة عشرة― (العُرى والأصباغ باهته ففوضاها غريبة/ والبرج علق في الفراغ موقدى يعصى لهيبة / أي احتضار / عصر النهار / في قمقم / أي اصفرار / نفث الغبار / كالأرقم / مازلتُ أحتضنُ الفراغ / مازلت اعتصر الدماغ فوراء تجويفاتها ماض مخيف. / ابدا تهددني جرائم أطلقت حولي الطيوف. / ماذا جنيت ―يدي― ماذا قد جنيت؟ / ولخير من هذا الشقاء إذا اثمت؟ / أخطيئة وحسبتها حقا يطيب وما شعرت؟/ أخطئة؟ / قولي معي ماذا فعلت؟

 

ثم أقول في المقطع الثامن… حريتي أنا ذا أنادي / هل أنا مازلت حرا؟ / أفما يزال بقبضتي يطوي الزمن / دهرا فدهرا؟ أفما يزال لي اختيار عقائدي مهما تعصبت؟ / أأعيش حرا في غدي / إن قبله يومي تفتت؟ / حريتي / أتركت لي خبزي وديني حين يفلت؟ أأرد أمسي دخنة / أبقبضتي أكفانُ أمسي؟ / إليّ ارتيادُ البرج في شظف الحياة وجدب نفسي؟ / حريتي / أنا ذا انادي / هل أنا مازلت حرا؟)

 

كُتب هذا الشعر في عهد الملكية والتعددية الحزبية الحقيقية. ولكنه لا ينم بأي حال عن انشغال سياسي بقدر ما ينم عن الانشغال بقضايا ميتافيزيقية ومحاولة فهم حقائق تكتنفها الشكوك, ومن بينها بطبيعة الحال قضية الحرية بمعناها المطلق، حرية العقيدة وحرية التعبير.

 

وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فلا بأس من تذكر حادثتين وقعتا لي / الأولى بعد مرور عشر سنوات على تاريخ هذه القصيدة.

 

والثانية بعد حوالي 19 سنة، لأبين أن احساسي بالأغتراب كان متأصلا وغريزيا.

 

في 1959، أقدتٌ أول معرض لي في القاهرة التي أقدت فيها بعد عودتي من العراق في 1957، لاحقا بصديق الصبا الفريد فرج، وحيث لحق بنا أدوار الخراط، فيما أذكر، في نفس العام او ربما العام التالي.

 

وقد فوجئت بتعليق كتبه الكاتب السياسي الشيوعي الراحل ابراهيم عامر في إطار عموده أو يومياته الاسبوعية بصحيفة الجمهورية عن معرضي. وربما كانت تلك هي المرة الأولى التي اهتم فيها بالكتابة عن معرض للفن التشكيلي. ولكنه، لدهشتي، لم يتطرق لقيمة العمل الفني نفسه. فقد قدم قراءته الخاصة لمضمون اللوحات وهي باختصار شديد ان الفنان ―أنا― يعبّر عن افتقاده الحرية. وياليته اكتفي بهذه القراءة، ولكنه تبرع من عنده بإعطاء الانطباع بإن هذا الاحساس ―افتقاد الحرية― وهو حقيقي، ينطوي على ادانة لي بنكران الحرية التي كان الجميع ينعمون بها! وكان تعليقه بمثابة بيان الى النائب العام.

 

أما الحادثة الاخرى فكانت أكثر غرابة وأشد وقعا، وقد وقعت وسط قاعة الاتيليه حيث كنت أقيم معرضي في 1968، وكان ابطالها أحد الدكاترة الفنانين ―وكان في ذلك الوقت عميدا لإحدى كليات التربية الفنية― وكان يزور المعرض بصحبة عدد من طلابه في جولة ميدانية. وما ان ألقوا بنظرة على المعروضات حتى سمعته بصرخ في استياء وتبرم شديدين… «ما هذا… لسنا في حاجة الى هذا التشاؤم» وقد شحن الطلاب بشحنة من العداء والكراهية وحرضهم على محاولة الاعتداء على لولا دخول بعض الزورا في هذه اللحظة الحاسمة.

 

ولاغرو، إذن، ان اتوقف مرة واحدة عن كتابة الشعر عام 1968، لا بسبب نضوب، ولكن لان شعري بالاغتراب، قد بلغ أوجه لتشكيلة من الأسباب من بينها أني اصبت قبلها بسموات بحالة لا استطيع توصيفها بدقة، ولكني استطيع مع ذلك ان ارجعها الى الاحساس بعدم الاكتراث بمتابعة الشعر العربي المعاصر، ومع مضى الوقت تزايد هذا الاحساس حتى بلغ حد النفور. وربما أفسر هذه الحالة بأن عدم اكتراثي، من ناحية اخرى، بالنشر قد فاقم الاحساس باللا ― انتماء، وقطعني نهائيا عن حركة لم يكن لي فيها دور لاني لم أرغب في ان أكون جزءا منها.

 

ومع ذلك، كان الثمن غاليا فقد توصلت، مع مضى السنين، برغم عدم انقطاعي عن متابعة الشعر الانجليزي – الامريكي، على الاقل، إلى شبه قناعة بأني ربما كنت نبته برية او حتى سامة في صحراء الشعر العربي. فقررت الانتحار على طريقة الهارا-كيري بدون أمل في أن يجمع اوزوريس اجزائي ذات يوم، وحبذا لو حدث ذلك في قرن آخر. ولكن كيف سيحدث ذلك وشعري كله تقريبا لم ينشر؟ لم اهتم كثيرا بمجرد التفكير في الرد على هذا السؤال الذي لم أطرحه أصلا.

 

ونزحت الى نيويورك في 1974 في صحبة زوجتي التي التحقت بالعمل في الأمم المتحدة، كمترجمة، ولم أهاجر كما يعتقد البعض. وخلال ربع القرن الذي قضيته في نيويورك حتى الآن، واظبت على متابعة حركة الشعر المريكي متابعة حميمة، إلى جانب محاولة التعرف على الشعر العالمي من خلال ما تبسر من ترجمات، وهي بالفعل وفيرة، بل يمكن القول انها تغطي تقريبا أي شاعر في العالم متميز وله قيمة ولا يسرى هذا القول على ترجمات الشعر العربي المعاصر التي إما تقوم على اساس تحيز المترجمين وجميعهم عرب، او الاختيار حسب معايير الانتشار الجماهيري، وليست معايير القيمة الشعرية.

 

وقد واصلت الكتابة خلال تلك السنوات، وحتى اليوم، عن الجديد في الشعر الامريكي، وصدر لي (في بغداد كتاب صغير في السبعينات عن الشعر الامريكي الاسود). وانقطعت طوال هذه السنوات الطويلة علاقتي بالشعر العربي المعاصر. ولكني كنت أفىء من وقت الى آخر الى دواوين المتنبى وابي تمام عمر بن أبي ربيعة وابن الفارض وغيرهم، التي حرصت على نقلها مع متاعي القليل الى نيويورك ولم تخامرني لحظة ندم على هذا الانسلاخ من جسد لم أكن عضوا من أعضائه، حتى جاء يوم – لابد كان مقدرا- 20 مارس 1996 – بعثت فيه من جديد فيما أعتبره معجزة أن يعود شاعر هجر كتابة الشعر زهاء ثلاثين عاما الى الشعر في سن 66 سنة، السن التي ينضب فيها الشعراء!

 

لهذه المعجزة قصة، شأن غيرها من المعجزات! فقد كان الصديق إدوار الخراط قد أبلغني أنه أدرج اسمي بين المشاركين في احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة عيد ميلاده السبعين وكان علي أن أرسل له كلمة قبل يوم 21 مارس، اليوم الذي كان من المفروض أن أشارك فيه حسب برنامج الاحتفالية، والا سوف يضطر الى قراءة تعليق لي نشرته مجلة الهلال بمناسبة حصوله على جائزة سلطان عويس للرواية، وانتظرت أو تكاسلت حتى يوم 20 مارس. وبدون تخطيط أو تفكير ذهبت الى غرفة النوم الأقضى حاجة ما، ولكني خرجت من الغرفة بعد حوالي ساعة لأعلن على زوجتي وابنتي / اللتين / كانتا قد ساورهما القلق، أني كتبت قصيدة، فأصابهما ذهول تطور في ثوان الى فرحة الولادة، وهو نفس الذهول الذي أصابه العزيز إدوار حينما وصلته القصيدة – تفصيل من جدارية الى ادوار الخراط – على الفاكس في نفس اليوم.

 

ولكني لم أتعجل كتابة القصيدة الثانية والتي كتبتها في أواخر 96. وابتداء من يناير 1997 بدأت أعيش بالفعل حياتي الثانية بأوردة شعرية تجري فيها دماء التسعينات وما بعدها.

 

يقول بابلو بيكاسو: لا أستطيع أن أفهم الأهمية التي تعطي الكلمة البحث فيما يتعلق بالتصوير الحديث، وأعتقد أن البحث لا يعني شيئا في التصوير، أن تجد، هو الشيء. فلا أحد يهتم بأن يتبع رجلا يثبت عينيه على الأرض، ويقضي حياته باحثا عن كتاب جيب يمكن أن يضعه الحظ في طريقه. والرجل الذي يجد شيئا، مهما كان هذا الشيء، وحتى ولو لم يكن في نيته أن يبحث عنه، يثير فضولنا على الأقل، ان لم يكن يثير إعجابنا.

 

إنني، منذ بداية التدفق الشعري – الثاني – أسحب من رصيد تجاربي الحياتية على مدى ربع قرن في نيويورك وكأني كنت اختزن خلال تلك السنوات التجارب والرؤي المكتسبة بالمعايشة والممارسة للحظة قادمة لم أكن أتوقعها، بل ولم تخطر لي على بال.

 

كما أتعامل مع اللوحة، أعتقد أيضا في كتابة الشعر على الصدفة المحرضة لاستحضار تجربة مكنونة معينة، وكما استوحى الصور المخزونة في الذاكرة البصرية، أو المرئيات العارضة التي لا تتخلق إلا مع تخلق اللوحة والتي قد تبدأ باستلهام اسكتش أو تخطيط عفوى وتنتهي بشىء آخر مقطوع الصلة بالبداية. تبدأ القصيدة بصورة تكون في الغالب بمثابة شفرة تقام على أساسها عمارة شعرية تعمقها ولا تقدم لها حلا، ولكنها تحرض على البحث عن حل.

 

لا أريد أن استفيض في محاولة استكناه التجربة التي أعيشها حاليا بكل كياني وجوارحي. ولكني سأترك هذه الصفحة مفتوحة على أمل أن تكون يوما موضوع كتاب لشاعر في السبعين، ولمن اسميه  «تجربتي الشعرية».

 

 

 

Más del autor